الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قال تعالى: {أَفَمَنْ كانَ مُؤْمنًا كَمَنْ كانَ فاسقًا لا يَسْتَوُونَ} 18 عند اللّه أبدا، وهذا استفهام إنكاري، أي لا يستوي المؤمن الموصوف بتلك الأوصاف الفاضلة مع الفاسق قط، بل بينهما بون شاسع.قالوا نزلت هذه الآية في سيدنا علي كرم اللّه وجهه حينما قال له الوليد بن عقبة بن أبي معيط أسكت فإنك صبيّ وأنا شيخ أبسط منك لسانا وأحدّ سنانا وأشجع جنانا وأملأ حشوا في الكتيبة، فقال له أسكت فإنك فاسق.وظاهر الآية العموم في كل مؤمن وفاسق لأنها واردة بمعرض ضرب المثل ولفظ التنكير يؤيد هذا المعنى الأخير، {أَمَّا الَّذينَ آمَنُوا وَعَملُوا الصَّالحات} في دنياهم {فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى} في أخراهم، وهي نوع من الجنان تأوي إليها أرواح الشهداء {نُزُلًا بما كانُوا يَعْمَلُونَ} 19 من الخير فإذا كان هذا نزلهم فما بالك بما يكرمهم اللّه به بعد، وهو المعطي العظيم الكريم؟، راجع معنى النزل في الآية 710 من سورة الكهف المارة {وَأَمَّا الَّذينَ فَسَقُوا} وأما هنا واردة بمعرض التقسيم موضحة ما للفريقين بالآية قبلها، أي وهذه الطائفة {فَمَأْواهُمُ النَّارُ} في الآخرة فتراهم والعياذ باللّه {كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا منْها أُعيدُوا فيها} لأنهم خالدون فيها، كما أن الطائفة الأولى خالدون في الجنة {وَقيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّار الَّذي كُنْتُمْ به تُكَذّبُونَ} 20 في الدنيا، وهذا آخر الآيات المدنيات، ولا يوجد في القرآن آية بتأييد الكافرين في النار إلا في موضعين هذه والآية 33 من سورة الجن في ج 1 هذا في القسم المكي وفي القسم المدني أيضا في موضعين في الآية 169 من سورة النساء وفي الآية 65 من سورة الأحزاب ج 3.قال تعالى: {وَلَنُذيقَنَّهُمْ منَ الْعَذاب الْأَدْنى} في هذه الدنيا كالقحط والأسر والجلاء والخذلان والقتل وسائر المصائب فيها، وفسر أبو عبيدة العذاب الأدنى هذا بعذاب القبر وحكي أيضا عن مجاهد ولكن آخر الآية ينفيه ويصرفه لما ذكرناه، {دُونَ الْعَذاب الْأَكْبَر} الذي يوقعه فيكم يوم القيامة وهو الخلود بالنار {لَعَلَّهُمْ يَرْجعُونَ} 21 عن غيهم وبغيهم، أي لعل من سلم من تلك الآفات يرجع إلى الإيمان، أما من أصيب فمات فلا يدخل في هذا الترجي فلو كان المراد بالعذاب الأدنى عذاب القبر لما وجد تلاقيه بالرجوع ليرجى لهم إذ لا رجوع بعده إلى الدنيا {وَمَنْ أَظْلَمُ ممَّنْ ذُكّرَ بآيات رَبّه} الدالة على أنه واحد وعلى صحة وقوع البعث والجزاء {ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها} فلم يتدبرها وأصر على شركه، وثم هنا لاستبعاد الإعراض عنها عقلا مع غاية وضوحها وعليه قول جعفر بن علية الخارجي:
أي أن هذا لا أظلم منه فهو أظلم من كل ظالم إذ لا أكبر منه جرما {إنَّا منَ الْمُجْرمينَ} أمثاله المتوغلين في الإجرام {مُنْتَقمُونَ} 22 منهم بالعذاب الأكبر لأنهم لم يتعظوا بما لا قوه من عذاب الدنيا {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكتابَ} التوراة {فَلا تَكُنْ في مرْيَةٍ منْ لقائه} إليه ولا تشك في إلقاء مثل ذلك الكتاب وجنسه إليك من قبلنا فكما ألقينا إلى موسى وعيسى وداود الكتب ألقينا إليك هذا القرآن أيضا، وإيتاء ذلك الجنس باعتبار إيتاء التوراة وإلقاء باعتبار إلقاء القرآن، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَنُخْرجُ لَهُ يَوْمَ الْقيامَة كتابًا يَلْقاهُ مَنْشُورًا} الآية 14 من سورة الإسراء ج 1، وقال بعض المفسرين: إن ضمير {لقائه} يعود إلى موسى على ما جرينا عليه أولا وهو أظهر، ولكن الأكثر على الثاني أي بعوده إلى محمد كما ذكرناه، ولهذا أثبتنا الوجهين.وقال بعضهم ونسبه لابن عباس لا تشك من لقاء موسى ليلة المعراج بعود الضمير إلى موسى نفسه، واستدل صاحب هذا القول بما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي اللّه عنهما عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال: رأيت ليلة أسري بي موسى رجلا آدم طوالا جعدا كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى رجلا مربوعا مربوع الخلق إلى الحمرة وإلى البياض سبط الشعر، ورأيت مالكا خازن النار والدجال في آيات أراهنّ اللّه إياه، فلا تكن في مرية من لقائه.وروى مسلم عن أنس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: أتيت على موسى ليلة المعراج ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره.وهذان الحديثان لا شك فيهما، إلا أن الأخذ فيهما يوجب عود الضمير إلى غير مذكور وهو لا يجوز إلا في المتعارف المشهور من المقام والسياق، وهنا ليس كذلك، وعليه فإن عوده إلى الكتاب أنسب وأقرب، يؤيده قوله تعالى: {وَجَعَلْناهُ} ذلك الكتاب الذي طلبنا عدم الشك منك في لقائه لأخيك موسى {هُدىً لبَني إسْرائيلَ} 23 كما جعلنا كتابك هدى للخلق كافه {وَجَعَلْنا منْهُمْ} أي بني إسرائيل {أَئمَّةً} أنبياء يقتدى بهم {يَهْدُونَ} الناس {بأَمْرنا} إياهم بذلك فيدعونهم إلى ما فيها من دين اللّه وشريعته {لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا} أولئك الأئمة {بآياتنا يُوقنُونَ} 24 أنها من عند اللّه إيقانا لا مرية فيه، ويا خاتم الرسل {إنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصلُ بَيْنَهُمْ} بين الأنبياء وأممهم وبين المؤمنين والكافرين وبين الظالمين والمظلومين {يَوْمَ الْقيامَة فيما كانُوا فيه يَخْتَلفُونَ} 25 في الدنيا بالأمور الدينية والدنيوية، وإذ ذاك يظهر المحق من المبطل.قال تعالى: {أَوَلَمْ يَهْد لَهُمْ} وقرىء بالنون أي يبين أو نبين والفاعل على كلا الحالين يعود إلى اللّه {كَمْ أَهْلَكْنا منْ قَبْلهمْ منَ الْقُرُون} الخالية وهم الآن {يَمْشُونَ في مَساكنهمْ} عند ذهابهم وإيابهم في أسفارهم ولم يعتبروا ويتعظوا {إنَّ في ذلكَ} أي إهلاك الأمم السالفة وجعل أمتك يمرحون في منازلهم {لَآياتٍ} كافيات للاتعاظ {أَفَلا يَسْمَعُونَ} 26 هذه الآيات وما جرى على أسلافهم فينتبهون من غفلتهم وينتهون عن كفرهم.قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إلَى الْأَرْض الْجُرُز} اليابسة ذات النبات اليابس المجروز المأكول، والجرز هو القطع أي الأرض المقطوع عنها الماء أو المقطوع نباتها لعدمه.واعلم أنه لا يقال للأرض السبخة التي لا تنبت جرز لأن اللّه تعالى قال: {فَنُخْرجُ به} أي الماء الذي سقناه إليها {زَرْعًا تَأْكُلُ منْهُ أَنْعامُهُمْ} من عشه وتبنه {وَأَنْفُسُهُمْ} من حبه وثمره {أَفَلا يُبْصرُونَ} 27 ذلك فيستدلون به على كمال قدرة اللّه وإحيائهم بعد موتهم كما تحيا الأرض بعد موتها، أفلا يعتبرون بذلك؟ والأرض السبخة لا تنبت بالطبع ولو أنزل إليها الماء إلا بعد حين بأن تتغير عما هي عليه، وإنما قدّم الأنعام على البشر لأن أول الزرع يصلح لها، ولأنه غذاؤها، والبشر قد يكتفي بغيره.هذا وبعد أن ذكر الرسالة والتوحيد أتبعها بذكر الحشر فقال: {وَيَقُولُونَ} مع ذلك كله كأن لم ينزل عليهم شيء ولم يحذرهم أحد أبدا مستفهمين استفهام استهزاء وسخرية {مَتى هذَا الْفَتْحُ} الحكم والقضاء الذي توعدنا به يا محمد أنت وأصحابك {إنْ كُنْتُمْ صادقينَ} 28 بقولكم ووعدكم، والفتح بلغة القرآن الفصل والحكم، قال تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمنا بالْحَقّ} الآية 89 من الأعراف ج 1، راجع الآية 15 من سورة إبراهيم المارة، والعرب تسمي القاضي فاتحا، فأنزل اللّه تعالى جوابا لهم {قُلْ} يا سيد الرسل لهؤلاء الهازئين الساخرين إذا جاء {يَوْمَ الْفَتْح} القضاء بين الناس يود الذين كفروا أن يؤمنوا ولكن {لا يَنْفَعُ الَّذينَ كَفَرُوا إيمانُهُمْ} لفوات وقته ولو آمنوا لا يقبل منهم {وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} 29 ليعتذروا إذ يأتيهم بغتة على حين غفلة في وقت لا توبة ولا إمهال فيه {فَأَعْرضْ عَنْهُمْ} يا حبيبي {وَانْتَظرْ} موعد نصرك عليهم وإهلاكهم كما {إنَّهُمْ مُنْتَظرُونَ} 30 نزول حوادث الزمن فيك وليسوا بمبصرين ذلك.هذا وما قيل إن هذه الآية منسوخة قيل لا وجه له، لأنها ختمت بما يدل على التهديد والوعيد وبدئت بما يدل على الإعراض في مناظرتهم، فلا يتعين فيها النسخ.وما قيل إن يوم الفتح هو يوم بدر أو يوم فتح مكة لا يتجه أيضا، لأن الإيمان فيهما مقبول والإمهال موجود، وقد نفى اللّه هذين فيه، فتعين أنه يوم القيامة يوم الجزاء الذي لا يقبل فيه شيء من ذلك ولا غيره.ولا يوجد في القرآن سورة مختومة بما ختمت به هذه السورة.روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقرأ في الفجر يوم الجمعة {الم تنزيل الكتاب} و{هل أتى على الإنسان}.وأخرج الترمذي عن جابر أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ: {الم تنزيل الكتاب} و{تبارك الذي بيده الملك}.وأخرج الترمذي عن طاوس قال: تفضلان عن كل سورة في القرآن سبعين حسنة.وأخرج بن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من قرأ: {تَبارَكَ الَّذي بيَده الْمُلْكُ} و{الم تَنْزيلُ} السجدة بين المغرب والعشاء الأخيرة، فكأنما قام ليلة القدر.وأخرج الخرائطي في مكارم الأخلاق من طريق حاتم بن محمد عن طاوس أنه قال: ما على الأرض رجل يقرأ الم السجدة وتبارك الذي بيده الملك في ليلة إلا كتب له مثل أجر ليلة القدر.وجاء فيما أخرجه أبو عبيد وغيره أنها تأتي يوم القيامة لها جناحان تدافع عن قارئها، وتقول لا سبيل عليه.والأخبار بفضلها كثيرة، وكذلك في فضل تبارك.واللّه أعلم وأستغفر اللّه، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، والحمد للّه رب العالمين. اهـ.
|